أحدث ما نشر

مدونة الشاعر والباحث قاسم موسى الفرطوسي .

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

معلم من الموصل




  

 جدول الكحلاء المتفرع من ضفة دجلة الشرقية قرب مدينة العمارة, تنساب مياهه الغرينية ماراً بقرية مسيعيدة (مدينة الكحلاء حاليا),وعلى ضفاف فرعيه (العدل) و(الاعيوج) تقع عشرات القرى والمضايف القصبية المقوسة لعشائر آلبو محمد العزاوية, ومن ثم تصب تفرعاتهما في أهوار (أم الطوس, أم نعاج, أم طفر) كان هذا في بداية عام 1935 من القرن المنصرم , حيث أخذ رؤساء العشائر والمتنفذين من الاقطاعيين بمطالبة مديرية معارف لواء العمارة آنذاك لفتح مدارس لأولادهم, فوافقت المديرية بفتح مدرستين الأولى باسم (مدرسة العدل الريفية) والثانية ( مدرسة الأعيوج الريفية) وكانت أغلب المدارس تسمى باسم شيخ العشيرة أو العشيرة أو القرية أو النهر, وبعد أن تعهد أولياء أمور الطلبة ببناء صفوف المدرسة من القصب والبواري (صرائف) وبطريقة (العونة), وكذلك تم تعيين (جلوب) فراشاً و(عبعوب) حارساً ويتقاضيان معاشهما طناً من الشلب سنوياً تبرعاً من الاقطاع والفراش إضافةً لوظيفته فما عليه إلا وأخذ مدير المدرسة بمشحوفه (دافوع) إلى قرية مسيعيدة ثم ينتظره يوم أو ثلاثة ايام حتى يعود المدير بالرواتب والبريد الرسمي بعد أن يستلمهما من مديرية المعارف في العمارة, أما الحارس عليه توفير المواد الغذائية والتعهد بالطهي والخبز بأجور يتفق عليها مع المعلمين المقيمين في بناية المدرسة, وكان أغلبهم وافدين من المدن الوسطى والشمالية مثل (بغداد, بعقوبة, الموصل, السليمانية) وذلك لعدم وجود معاهد وثانوية واحدة في العمارة لا تكفي لدخول بعض خريجيها لدورات صيفية لسد الشواغر, وكان المعلمون الوافدون يعانون معاناة كبيرة بعد أن تنقطع أخبارهم عن عوائلهم حيث لا يرونهم إلا في العطلة الصيفية وذلك لرداءة الطرق وقدم وسائط النقل وكان الاتصال الوحيد بينهم هي الرسائل البريدية والتي قد تتأخر لأكثر من شهر, وعندما توسعت هذه المدارس أصبحت تحتاج أعداد من المعلمين وقد يصعب على المديرية سد الشواغر فيها وهذا ما حصل فعلاً في مدرسة الاعيوج بعد حدوث شاغر فيها وهناك فيض في ملاك مدرسة العدل فأوعزت المديرية لنقل أحد المعلمين من العدل إلى الاعيوج واصدرت كتابا بنقله المؤرخ والمرقم, وبعد تبليغ المعلم بأمر نقله رفض ذلك وعاش دوامة كتابنا وكتابكم فطلبت منه المديرية استفساراً خطياً وطرحت عليه هذا السؤال عن أسباب رفضه (بين أسباب عدم ألتحاقك بمدرستك الجديدة؟) فكلن رد المعلم المنقول على الاستفسار بقصيدة مبينا فيها معاناته في مدرسة العدل وما لاقاه من تصرفات عبعوب وجلوب ونختار منها هذين البيتين :
فبـالعدلِ المحببُ ما استقمنــا          فكيف و(بالاعيوج) نستقيمُ
فمن (عبعوب) ذقتُ العيش مراً         ومن (جلوب) راواني السقامُ
وبعد أن أطلع السيد المدير العام على الاستجواب (القصيدة) أمر له بالبقاء في مدرسة العدل, وكل المصادر تشير بأن هذا المعلم الشاعر من أهالي الموصل وكان أول تعيينه في ريف العمارة, وبعد أن انتشرت المدارس في العمارة حتى وصلت إلى أبعد قرية في الهور فقد أصبح ريف العمارة منجماً للمبدعين من رواد الفكر والثقافة والأدب والفن والرياضة والمعرفين عراقياً وعربياً وحتى عالمياً وهم بالمئات ولا حصر لهم لأنهم عاشوا على أرث حضاري امتداده ستة آلاف سنة, وبعد أكثر من سبعين سنة ق.م لازالت حكاية هذا المعلم الشاعر في ذاكرة أهل الهور يتناقلونها في مضايفهم ودواوينهم, وحقاً كان المعلم كالشمعة يحترق ليضيء للآخرين

الباحث قاسم موسى الفرطوسي