أحدث ما نشر

مدونة الشاعر والباحث قاسم موسى الفرطوسي .

الجمعة، 4 يوليو 2014

«جليب الماي» وعودة الأهوار




«جليب الماي» وعودة الأهوار
تم قراءة الموضوع 1140 مرة   







27/8/2011 12:00 صباحا
قاسم موسى الفرطوسي
كلب الماء حيوان سومري جميل ونادر عاش في الأهوار منذ آلاف السنين أسمه (القندس) وجمعها (قنادس) . وهناك رأي يقول بأنه ثعلب من اصل أوروبي وهذا الرأي نرفضه رفضاً قاطعاً فالكلب كلبنا وتربى في أهوارنا ولا نقبل لأحد ان يمس هويته السومرية. و(جليب الماي) يشبه (القطة) ولكنه أكبر منها حجماً بكثير. رأسه مدور وذيله غليظ ونهايته مدببة وطوله أكثر من متر ، أسنانه حادة واصابعه ملتصقة بغشاء رقيق يساعده على التجذيف والسرعة الفائقة يكسو جلده الفرو الناعم والثمين ويستعمل لصنع الملابس الفاخرة يجيد الصيد والسباحة والغطس لمسافات طويلة يطلق صفيراً عند خروجه من الماء . يتواجد في الأهوار النائية الموحشة والتي يصعب على الانسان من الوصول اليها ليكون في مأمن من الصيادين والاخطار التي تهدده يجعل من الجزر الطافية والصغيرة (التهول) مقراً للاستراحة بعد عودته من الصيد.
الأهوار التي يتواجد فيها هي : (زجري ، السناف ، الجكة ، الصحين ، العكر ، الكباب ، أم الزوري ، أم البني ، أم نعاج ، الصيكل) وغيرها يتخذ من الممرات المائية ذات التيار القوي (الكواهين) ملعباً للسباحة والصيد ويحبذ الأسماك الصغيرة أما الاسماك الكبيرة فيصطف معها ويقطع زعانفها الأمامية والخلفية حتى يشل حركتها فيقتلها ثم يسحبها بأسنانه الى الجزرة التي تتواجد فيها أنثاه وصغارها الجياع والذين هم بانتظاره يتكاثر في شهر شباط من كل سنة وقد تلد الأنثى اكثر من جرو وهناك تفاهم وتحابب ومودة بين الذكر وأنثاه ولا يفارقها مطلقاً الا في الايام الأولى للولادة فتبقى الأنثى مع صغارها لتعتني بهم وتعلمهم السباحة والغطس والصيد وتحرسهم من الأخطار التي تهددهم ، ويذهب الذكر ليوفر لهم قوتهم اليومي من الاسماك حتى تكبر الجراوي وتصبح كلاباً وتعتمد على نفسها في العيش والتزاوج.
وقد يعثر سكنة الأهوار وبطريق الصدفة على بعض الجراوي الصغار فيربونها داخل البيوت وهذا نادر ما يحصل ولكن الرحالة البريطاني (كافن ماكسويل) مؤلف كتاب (قصبة في مهب الريح) وخلال جولاته في الاهوار عام 1954 فقد حصل على جروين صغيرين وذيلهما بطول قلم الرصاص فسماهما (كحلاء ومجبل) فالأول توفي بالحمى والثاني اخذ معه الى لندن وعاش فيها عدة سنوات وقد (خضع مجبل) الى دراسات أوروبية مختصة بعلم الحيوان فظهر بأنه حيوان لا يوجد من نوعه في العالم وليس له اسماً علمياً فسماه (مكسو يلي) أي بدل أسمه وهنا لنا اعتراض على السيد مكسو يل ونقول له ان مجبل يبقى حيواناً سومرياً عراقياً مهما تبدل أسمه.
وبينما كان مجبل يتحول في ريف لندن دهسه سائق اسكتلندي بطريق الخطأ فمات. هكذا كانت نهاية مجبل (جليب الماي) الموت في ديار الغربة بعيداً عن أهواره وأخوته (القنادس) ودفن في ضواحي لندن.
ويتعرض (جليب الماي) الى القتل والابادة من قبل صيادين ماهرين محترفين يطلق عليهم (الرماية) متخذين من صيده هواية أو للكسب المادي لان جلده من الفرو الغالي وله تجار متجولون يسمون (الصفاطة) وصيده مجازفة وفيه من الخطورة على الصيد لانه يبقى أيام وليالي في عمق الاهوار المخيفة وينام ليلاً بين أحراش القصب الكثيف بزورقه الصغير المدبب ولا يزيد طوله على الستة أمتار ويسع لشخص واحد فقط والصياد له خبرة ودلالة كافية بأمكان تواجد الكلاب وعندما يعثر على أثر له في الجزرة كالبراز مثلاً يعرفون بأن الكلب في رحلة صيد وسيعود ، فينصبون له كميناً بين القصب وبعكس أتجاه الريح لأن الكلب له حاسة شم قوية فعندما يشم رائحة الانسان ينهزم وقد يبقى الصياد ليلة كاملة بانتظاره وحين يسمع صفيراً يتهيأ لقتله واثناء صعوده وأنثاه الى الجزرة يطلق النار عليهما فيقتلهما هو وأنثاه من بندقيته التي تسمى (جعازة) والتي هي وبارودها ورصاصها محلية الصنع . وبعد قتله يقوم بذبحهما وسلخ جلدهما فوراً والاحتفاظ بهما وقد يشاهدهما الصياد نهاراً فيتسلل اليهما بين القصب ويقتلهما وبعد عودة الصياد الى بيته يملأ الجلود بالقصب والبردي وتصبح وكأنها كلب حقيقي أي تحنيطه حتى لا تتقلص الجلود ويتركها لتجف وفي بعض الاحيان يعثر صيادو الأسماك على الكلب فيقتلونه بالفالة ولكنها تمزق الجلد فتقل قيمته.
وقد ذكر (جليب الماي) في موروثنا الشعبي ففي الأمثال يقولون (جليب الماي مطلوب على جلده) ولمن يجيد السباحة يقولون (جنك جليب الماي) وفي الأهازيج يقولون (جليب الماي أكل اعيونه) وفي الألغاز يقولون (اكله كطم ونصه عظم ما هو ؟) أما الاطفال فيحبونه ويعتبرونه صديقاً لهم فعندما يدخلون الأهوار ينادون عليه (جليب الماي أتريد حليب لو جاي) فعندما يرد عليهم الصد (جاي .. جاي .. جاي) يظنون قد استجاب لدعوتهم فتأخذهم الغبطة والسرور ويعودون الى بيوتهم.
وفي هذا نظم الشاعر الشعبي الحاج عبدالحسن المفوعر السوداني هذا البيت من الأبو ذيه:
ما ينصاد ابو الزمير ما ينصاد
بني ولا تظن بحجار ينصاد
على جلده جليب الماي ينصاد
المثل مضروب لكن صار بيه
وبعد جريمة تجفيف الاهوار عام 1992 والتي تعتبر أكبر كارثة بيئية واقتصادية واجتماعية وثقافية شهدها العالم في عصرنا هذا أصبحت الأهوار صحراء قاحلة لا نبات فيها ولا ماء وهاجر أهلها من قراهم العائمة الى المدن ، فتعرضت جميع الاحياء المائية الى الابادة التامة ومنها (جليب الماي) حيث ماتت مجاميعه من العطش والجوع أو من أحترق بنيران الحرائق التي شبت في غابات القصب والبردي ولمسافة اكثر من 90 كليو متراً وبقيت مشتعلة لعدة اشهر وما تبقى من هذه الكلاب لم نعرف مصيرها وهل هاجرت الى الأنهر القريبة ولكن ذكر لي احد الصيادين قبل ثلاث سنوات بأنه قتل جرواً في مياه شط العرب قرب جزيرة (أم الرصاص) وهذا ما يدل لنا على هجرته هناك لوفرة المياه والاسماك.
واخيراً وفي حالة عودة أهوارنا مجدداً ضمن الخطة العلمية والحضارية المرسومة لها سيعود (جليب الماي) الى (كواهينه) ويصطاد فيها لأنها أمهرما عرفته الأهوار وعندما يعود سيكون مطلوباً على جلده كما في المثل الشعبي