أحدث ما نشر

مدونة الشاعر والباحث قاسم موسى الفرطوسي .

الأحد، 27 يوليو 2014

الاستاذ قاسم موسى الفرطوسي


كنا ندرس وأرجلنا في الماء غاطسة حد الركب... والطلبة فوق رحلاتهم واقفون
الكاتب: {0} admin
7/2/2012
  تم قراءة الموضوع 197 مرة
  تم تقيم الموضوع من قبل 0 قراء
بغداد – سعد صاحب
قاسم موسى الفرطوسي واحد من المعلمين القدامى الذين نذروا حياتهم لمهنة التعليم المقدسة، وكان يذهب في مشحوف (قارب) الى مدرسته النائية في عمق الاهوار والتي كانت من البردي والقصب، ليدّرس ابناء الفلاحين الفقراء المحرومين من ابسط الحقوق الاجتماعية،
بغداد – سعد صاحب
قاسم موسى الفرطوسي واحد من المعلمين القدامى الذين نذروا حياتهم لمهنة التعليم المقدسة، وكان يذهب في مشحوف (قارب) الى مدرسته  النائية في عمق الاهوار والتي كانت من البردي والقصب، ليدّرس ابناء الفلاحين الفقراء المحرومين من ابسط الحقوق الاجتماعية، ولم ينتظر  مكافأة او هدايا  منهم سوى حبهم اليه وراحة الضمير والوجدان ،وكم صادفته من المخاطر في طريق الذهاب والاياب، وكم مدرسة احترقت  بمعلميها، وكم معلما مات  غريقاَ او ملدوغاَ او اصبح فريسة لوحش كاسر في المناطق النائية الكثيفة بالادغال والوحوش، ورغم الظلام والخوف وبعد المسافة  ووجود الحيوانات المؤذية واصلوا طريقهم  وانتصروا، انه طريق النور والخير والمعرفة  والصلاح  والهداية  والثقافة  والاخلاق والايمان والوضوح والقيم الفاضلة والتفاعل  الاجتماعي والمهارات.هو من مواليد العام 1942 في اهوار الصحين قضاء  المجر  الكبير ميسان، تخرج من دار المعلمين 1962 وعين معلماَ في مدارس الاهوار ومنها: مدرسة آل فرطوس الريفية، مدرسة الصحين، مدرسة العدل ،ثم انتقل  الى بغداد ودرس في مدرسة المعينية في هور  رجب، مدرسة الجنيد  في الدوريين ومدرسة الاتحاد  في مدينة الثورة، وتقاعد من التعليم  في العام 1979 . وانه كاتب وباحث في شؤون الاهوار ومن مؤلفاته: مشاهدات معلم في الاهوار، اهوار في جنوب العراق، الامثال الشعبية في الاهوار، زبد  معدان شعر شعبي.

امرأة انقذتني من الغرق
* ما الذي تتذكره من عالم الطفولة الساحر العجيب؟

- ولدت في قرية الصحين القائمة على جزرة صغيرة من القصب والبردي  تسمى (الشجه) لا تتجاوز مساحتها ال 500 متر تحيطها  المياه من كل جانب ،والطفل في قريتنا يتعلم الجذف بالمشحوف قبل الزحف لانه لا توجد ارض يابسة يزحف عليها، وهذا ما حدث لي حين  تعلمت الجذف والسباحة في السنين الاولى من حياتي  ومن الحوادث  التي لا انساها  عندما غرقت  وبقيت  متمسكاَ بالمشحوف  وكان عمري 4  سنوات وانقذتني امراة كانت  تسير قرب  بيتنا ،كان والدي رجلاَ  طيباَ يمتلك  قطيعاَ كبيراَ من الجاموس وكنت أكبر اخوتي في هذه القرية الجميلة نشأت  وكبرت حتى  بلغت السادسة  فارادوا ان  يسجلوني في  المدرسة  ولكن لا توجد مدرسة  في قريتنا وكانت هناك مدرسة في قرية اخرى تسمى (النكارة) تبعد عن قريتنا حوالي  ساعتين بالمشحوف، أخذني والدي وسجلني في العام 1948واول من علمني (دار ودور) المعلم علوان شهاب النصيري وكان محبوباَ  ويتابعنا  وكانه الاب الثاني للاطفال.

البرك المائية العميقة
*ماهي  ذكرياتك عن ايام الدراسة في الاهوار؟

- كنا50 طفلاَ نأتي  من قريتنا البعيدة للمدرسة كل 5 أطفال  في مشحوف، نخرج قبل طلوع الشمس  ونصل الى المدرسة في  الدرس الثاني وكان المعلمون  يتعاملون معنا معاملة حسنة  ويشجعوننا  على الدوام برغم  الشقاء  والعذاب  والمخاطر، وأصعب  ما يواجهنا  ويخيفنا البرك  المائية العميقة في الاهوار التي يبلغ عمقها 4 امتار  او أكثر  وكنا نتعرض للغرق وانقلاب  الزورق الذي يحملنا  عند هبوب  الرياح، لم تحدث  لنا حالات  موت لكوننا  جميعاَ  نعرف السباحة  بشكل بارع  والمتضرر الوحيد  الكتب التي تتمزق  من كثرة تعرضها للماء، وذات مرّة مطرت  علينا حالوباَ من النوع  الكبير وتجمدت  ايادينا من البرد  ولم نستطع ان ندفع المشحوف بشكل جيد ودخلنا نحن والمشحوف في مكان مليء بالقصب، وكانت  بعض الحيوانات  المخيفة تعيش  في هذه البقعة  النائية كالخنازير  والجاموس المتوحش والافاعي  ولكننا   جابهنا الموقف  في  شجاعة نادرة  وحينما توقف  المطر انطلقنا نحو مدرستنا  وكنا نردد الاغاني  كي لا نشعر  بالخوف والوحشة. وكان المطرب الراحل عبادي  العماري  أحد الطلبة الذين كانوا معي  في الصف، وقد اختاره الاستاذ علوان شهاب  ان يكون  مراقباَ علينا  لضخامة جسمة وقرابته من الاقطاع  وكنا  نخاف  من عبادي  اكثر من الاستاذ.
 وتحملنا الكثير من العقوبات  بسبب غنائه  الجميل وتنقيراته على الرحلة الخشبية، وبقينا معاَ حتى اكملت المتوسطة  وافترقنا بعدها  كل واحد في طريق.

تشجيع على الثقافة
*من هم الاساتذة  الذين تركوا أثراَ طيباَ  لديك؟

- انهيت المتوسطة  في المجر الكبير العام 1959  ودخلت الى دار المعلمين  وتخرجت  منها في العام 1962 ، ومن المدرسين  الذين اعتز بهم كثيراَ الاستاذ عزيز ياسين من رواد  القصة  القصيرة في العراق واول قصة نشرها كانت بعنوان (فطومة) نشرتها مجلة  الاديب  البيروتية  في العام 1956 ، والاستاذ الاخر  عبد الواحد محمد رئيس قسم الترجمة  وعميد كلية اللغات  السابق،  وللامانة اقول انهم اساتذة اكفاء  بمعنى الكلمة  وكانوا  يشجعون الطلبة على الثقافة  والعلم  والابداع والابتكار.

قراءة الكتب
*كيف كان يقضي المعلمون اوقاتهم في القرى الجنوبية البعيدة ؟

- بعد تخرجي  قدمت اوراقي للتعيين  ولكوني فرطوسياَ عينت في ابعد مدرسة في (لواء العمارة) مدرسة ال فرطوس  الريفية  وكانت المدارس تسمى باسماء  العشائر كمدرسة البيضان  ومدرسة ال ازيرج  ومدرسة البو محمد، وكانت المدرسة التي اصبحت فيها  معلماَ تبعد عن قريتي 12 ساعة في المشحوف وهي  مدرسة قائمة على (كلك) من البردي والقصب  والسبورة  تربط بحبل  وقصبة  كي لا تتحرك  ،وكان  مدير المدرسة  اذا ذهب لجلب راتب المعلمين  يبقى 10 ايام  في الطريق،  والمعلمون مقيمون في المدرسة  ومنقطعون  عن اهلهم  وينزلون  باجازات  متباعدة  ،شانهم شأن العسكريين  والذين بيوتهم قريبة ينزلون  خميس وجمعة ،ومن المعلمين الذين اتذكرهم  كان معي الفنان التشكيلي  المغترب تركي عبد الامير  وكنا نستغل  الوقت  الطويل بقراءة الكتب  وكل معلم حينما يذهب  الى البيت ويعود لا بد ان يكون  متأبطاَ حقيبة من الكتب المنوعة، وكان بعض المعلمين  يلعبون  كرة القدم او يذهبون في زيارات الى اهل المنطقة  وكانوا يحترمون  المعلم بشكل خاص ويقدمون له  ما يريد من الامور التي يحتاجها.

استرجال النساء
*ماهو السبب  وراء استرجال المرأة  في الريف؟

- المرأة في الريف تعاني من العنف والحرمان  والاستغلال وكانها خادمة وليست  سيدة داخل البيت، كل هذه الامور  وسواها  جعلت من المرأة  ان تسترجل حتى تتخلص  من الضيم  الذي  وقع عليها  وفي كل قرية   جنوبية توجد أمرأة مسترجلة  تقلد الرجال بلبس العقال والعباءة  وحمل الخنجر  والبندقية  ولها حصة  في المزرعة ويتحول اسمها الى اسم  رجل على سبيل المثال  موزة تتحول الى موزان  ومسعودة الى مسعود  وكانت موزة تسكن في اهوار الحلفاية  ومسعودة في  اهوار الكحلاء، ومرداوه تحولت  الى مرداو وكانت تعيش في  اهوار الوردية  ومن ثم انتقل   مرداو الى مدينة الثورة وتوفى في العام 1980 وبقى  رجلاَ ولم يعد الى انوثته  برغم الضغوطات التي تعرض اليها، واحدى النساء المسترجلات  تعرضت  الى اعتداء جنسي  لكنها  دافعت عن (رجولتها)  ببسالة وجندلت ثلاثة رجال احدهم في حالة خطرة ضربته على جبينه بمردي.
سحر الأهوار
*هل الاهوار  محطة جذب لكلّ المستشرقين في العالم؟
- نعم الاهوار  محطة جذب منذ القرن السادس عشر واول امراة  دخلت الاهوار السيدة (ليدي درور) صاحبة كتاب حضارة وادي الرافدين  وسارت مشياَ على الاقدام من الكوت الى القرنة  وزارت الاقطاع والمدن  وعاشت مع العوائل المترفة وشاهدت التشابيه  وعلقت عنها قائلة :دخلت  تشابيه القرنة وكأني  دخلت معركة الطف  الحقيقية، وكانت  جميع الخيول  تشارك في هذه الواقعة  والناس تتفاعل معها  بشكل حقيقي، أما ولفريد ذيسيكر  المستشرق البريطاني  دخل الاهوار في العام 1950  واتخذ من عشيرة الفريجات  اصدقاء له  وكان مقره في قرية  (القباب) في اهوار  الناصرية  تحديداَ  في مضيف الحاج جاسم  فارس الفرطوسي  رئيس عشائر فرطوس  في محافظة الناصرية، وعن هذه  التجربة ألف كتاب عرب الهور  وهو اول من ادخل الختان الصحي للاهوار  وكان يستخدم  البنج والمقاص النظيفة  والقطن  ويعطي للطفل  الذي يتطهر  على يديه  250 فلساَ  وانا واحد من الذين (طهرهم) هذا المستشرق النبيل.. وهناك الكثير من المستشرقين  الذين  عاشوا في الاهوار ومن ضمنهم (كافن يونك) الذي بقي فيها 30 عاماَ  وألف كتاب  العودة الى الاهوار  وكان مراسلاَ صحفياَ  لجميع الصحف الاجنبية  وكتب الكثير من المقالات التي  تشيد بسكان  هذه الاماكن  واخلاقهم  وحسن تعاملهم  مع الضيوف  لاسيما الاجانب، والمستشرق  الاخر اسمه كافن منكسول  مؤلف كتاب (قصبة في مهب الريح) وهذا الرحالة  دخل الاهوار  مرة واحدة  وهو  فنان تشكيلي بريطاني  وعند عودته أخذ معه  ذكرى حيوان  اهواري لطيف يسمى (جليب الماي) في اللهجة المحلية والقندس في اللغة الفصحى،وهذا الحيوان  لا يوجد له مثيل في العالم الا في العراق  ويمتاز  بالجلد الثمين  الذي يستعمل فرواَ للملابس، ولم يستطع  هذا المخلوق ان يتكيف مع الاجواء  الجديدة وعاش غريباَ في لندن الى ان دهسه سائق اسكتلندي ومات.
 وهكذا احتضنت مضائف عرب الاهوار المستشرقين فشربوا من فناجين قهوتهم ومن حليب جواميسهم واكلوا من خبز (الطابق) اللذيذ، ولا غرابة ان يسمّى (ذيسيكر) بالفريجي لانه  عاش بالقرب  من عشيرة الفريجات،هذا المستشرق الذي  كان يعجبه الرقص الجنوبي في الاعراس والمناسبات السعيدة اما العراضة العشائرية  اطلق عليها اسم رقصة الحرب.

النظافة والنظام
*لماذا  صوفيا  بالذات لفتت  انتباهك دون المدن الاخرى؟

- سافرت الى تركيا وبلغاريا  وايران وسوريا  والسعودية، واكثر الدول  التي اعجبتني  بلغاريا  وكانت سفرتي لها  في العام 1974  وبقيت فيها  شهرين والمبلغ  الذي معي  150 ديناراَ يصبح بعد التصريف في ذلك الزمان خمسمائة دولار  وهذه النقود كافية لسفرة ممتعة  في بلد اسعاره زهيدة، والذي لفت انتباهي في صوفيا النظافة  والنظام وطول مكوثي  لم ار مخالفة  قانونية  ولم اشاهد شرطي مرور في الشارع ولا عسكري  وجهه حاد الملامح، والناس كانوا ينامون في الساعة العاشرة ليلاَ  كي يسيقظوا فجراَ ويذهبوا الى العمل  وهم نشيطون  وكان اغلب المعلمين في  سبعينيات القرن الماضي يسافرون وهذا السفر يجدد دماءهم  ويكسبهم خبرات جديدة  في كلّ الاشياء.

خصال حميدة
*هل العلاقات  الاجتماعية في الريف  افضل من المدينة؟

- العلاقات الاجتماعية  في الريف اكثر  تماسكاَ  من المدينة  بسبب قرب  المكان ،فالقرية  تجمع عشائري  وحينما تحدث  حالة محزنة او مفرحة  الجميع  يشارك فيها، وما زال المجتمع القروي  بعيداَ  عن الكذب  والممارسات الخاطئة وان افسدت   العولمة فيه الكثير  من الخصال الحميدة، اما المدينة  فانها اصبحت موحشة  واختفت فيها  مفردات  الصدق  والوفاء  والامانة  وانك  تشعر في الغربة  بداخل جدرانها الصماء ،والجار لا يعرف اليوم جاره ولا يشاركه في الهموم والافراح والكل  تركض ولا تمسك  سوى الوعود الكاذبة  وقبض الريح  والسعيد من يستطيع  ان يعيش بلا عداءات ولا ديون.

حب واخلاص
*ما الفرق بين المعلم  القديم والجديد؟

- المعلم القديم  صاحب شخصية  قوية مؤثرة  بالطلاب وبالناس  المحيطين  به من كلّ  جانب، وكان مدير المدرسة  في ابعد  المدارس التي تقع في نهاية  الاهوار  لا يسمح للمعلم بالدخول  مالم يكن  لابساَ ثياباَ جديدة  ويحاسبه حتى على الرباط والحذاء، والمعلم لا يمتلك  مهنة  اخرى غير  التعليم  وكنا نعمل بحب واخلاص  ولا أنسى  الايام  التي كنا فيها  ندرس الطلبة وارجلنا  في  الماء غاطسة  الى الركب والطلاب  فوق  رحلاتهم  واقفين، وبصبرنا  وارداتنا الصلبة خرجنا جيلاَ ناجحاَ  يضم الطبيب  والسياسي  والمهندس  وفي احدى  المرات  كنت صاعداَ في سيارة اجرة  عامة وتقدم  نحوي شخصاَ لا اعرفه  ودفع اجرتي  وقبل يدي  وقال كنت واحداَ من طلابك   وبفضل  يدك هذه التي (ضربتني)  بها لاجل  مصلحتي اصبحت  انساناَ نافعاَ  الى كل الناس  بثقافتي  وعلمي الذي  لا ابخل به على احد، فاني  اليوم طبيب باختصاص نادر ولم اطلب اجراَ عالياَ من مرضاي.
اما المعلم الجديد فانه  مهووس  بالماديات  بشكل غير طبيعي وتدريسه في الصف  غير جيد  ولا يفهمه الطالب وحين يدرس مقابل  أجر بما  يسمى التدريس  الخصوصي  يبدع  في المادة  الدراسية  ويدخلها  في ذهن الطالب  باسرع وقت  ممكن، وكانه  يعيش في شخصيتين  متناقضتين، الشخصية الاولى  سلبية هدامة وغير مفيدة داخل الصف  وشخصية ثانية  نافعة  ومبدعة  في الدرس الخاص  وهذه مشكلة كبيرة  تعاني منها العوائل  الفقيرة التي لا تستطيع  ان تدفع اجور  الدروس الخصوصية  لابنائها  الطلبة، وهذه الثقافة  الوافدة  الغريبة على ثقافة المجتمع العراقي  بدأت تتفشى بشكل سريع ولها مريدوها  الذين يرجون لها  لانها تحقق لهم  مصالحهم  الخاصة، وللأسف الشديد أصبحت هذه الممارسة مستساغة وعادية من قبل جمهور كبير  مرتبط  بمنافع  ذاتية  واحدة، اذن من حقنا القول  ان المعلم  القديم  يمثل حالة  اليسار بمعناها الاجتماعي والاخلاقي  والمعلم الجديد  يمثل حالة  اليمين  بمعناها  السلبي الذي يعرقل التطور والابداع ويدعم الانانية والنفعية والسلطوية ومع الاعتذار لبعض المعلمين الجدد الذين ساروا على خطى معلميهم القدامى.