أحدث ما نشر

مدونة الشاعر والباحث قاسم موسى الفرطوسي .

الجمعة، 4 يوليو 2014

لاعبونا شطيط



لاعبونا شطيط !
محمد غازي الأخرس - 10/04/2013م - 9:58 ص | عدد القراء: 94


وأنا أتابع ما يجري في العراق، تذكرت كنايتين كنت قرأتهما مؤخرا في الكتاب الذي حدثتكم عنه قبل أيام، أعني الذي ألفه الباحث قاسم الفرطوسي وأثبت فيه بعض كنايات سكنة الأهوار وأمثالهم. تذكرت الكنايتين وأنا أتأمل حالنا وحال الساسة الذين يتلاعبون فيما بينهم وبنا.

الكنايتان بديعتان مستلهمتان من بيئة الأهوار التي تزخر بالعناصر. وهذا هو دأب الشعوب والجماعات التي غالبا ما تعيد قراءة البيئة وأشيائها لإنتاج ثقافاتها وقيمها. أما الأولى فتقول: جنه خروف فاتحة، وهي تستعمل عادة لإيصال معنى بعيد عن أيّ رجل ترك حباله على الغارب وبات لا يدري عن مصيره شيئا. لا يدلي بدلو في حديث، ولا رأي له في قضية. أي انه كما نقول في كناية أخرى رديفة: حجار ومصفط واله عيون. صكمن بكمن، إذا حضر لا يعد وإن غاب لا يفتقد.

مثل هذا النمط من الناس معروفٌ في مجتمعنا على نطاقٍ واسع ، وأحسبُ أنه نتاج ثقافة اجتماعية تقوم على احتقار كلّ من لا يجيد البلاغة والبيان، والسبب أنَّ حوارنا يقرب أن يستعير شكل العراك، وفيه يتوّج اللسانُ الباشط بوصفه سلاحا لا غنى عنه لقطع حجج الخصوم. لذا نحن نحتقر مفتقدي البيان والفصاحة ونتهكم منهم دائما في كناياتنا وأمثالنا. نقول: فلان لا يحلْ ولا يربطْ، وعلّان ما يحل رجل دجاجة. ونقول عن فلانة أيضا انها فاهية و(خنيجه) ومطفّيه، ومؤخرا صرنا نطلق على كلّ من يتسم بهذه الخصيصة؛ مطفي من (الأبي)، و(الأبي) هو المصدر الرئيس لتغذية البيوت بالمياه.
المهم ان قول أهالي الأهوار عن مثل هذا النمط من الناس انه: مثل خروف الفاتحة، لم يأتِ من فراغ، فهم حين كانوا يدعون إلى عرس أو يذهبون لتهنئة رجل عاد من الحج، كانوا يأخذون معهم هدية هي عبارة عن خروف حي، وهذه العادة لا تزال سائدة عند العوائل العراقية من مختلف المنحدرات. وبما أنهم كانوا يعيشون في الأهوار ويستخدمون المشاحيف في تنقلاتهم، فقد كانوا يضعون الخروف في مقدمة القارب ويجلسون هم في المؤخرة ربما تباهيا او استعراضا لنوع هديتهم. الكناية نتجت ربما من منظر القارب المتهادي في الأهوار وفي مقدمته خروف (متشخص) ينظر بعينيه بهدوء، لا يمعمع ولا ينبس ببنت شفة.

نعم، لعل أهل الأهوار البلغاء نظروا للخروف (المتشخص) وضحكوا في سرهم منه، فهو جالس في المقدمة، يتأمل بعينيه ساكتا، لا يلوي على شيء وغير مقدر لما ينتظره. فهو ذاهب للذبح حتما والسكين في انتظاره على اليابسة. ومع هذا يبدو هادئا، لطيفا، فرحانا ربما بالمشوار.
دعكم من هذه الكناية وانظروا إلى الثانية وهي قولهم: لاعبني شطيّط. وهي، في الدلالة، نقيض الأولى إذ تطلق على (الكلاوجي)، الذكي في الحوار، الذي يغلب الخصم دائما بمطاولته واستعراضاته البهلوانية، فهو سفسطائي، جدالي، يشلع القلب بألاعيبه. وعن هذا النمط قيل ما قيل في الأمثال والكنايات ومن ذلك أننا نستعير له قدرة القطة على تعديل وضعها بسرعة قائلين: مثل البزونة، منين ما تجيه يوكع على رجليه.
أمّا مصدر "لاعيني شطيط"، فراجع إلى لعبة كان يمارسها الأطفال في الأهوار. كانوا يقفون ويتبارون في المطاولة بالنفس فيقولون سوية: شطيط، ثم يمدّون الياء حتى تنقطع أنفاسهم هكذا: شطييييييييييييط، فيختنقون واحدا إثر واحد، والفائز هو آخر المختنقين.
نعم، الكنايتان تنطبقان على ما يجري في العراق. فالساسة يتلاعبونَ فيما بينهم وبنا قائلين: شطييييييييط! منذ عشر سنوات وهم يتبارون في طول النفس لقطف ثمار تخصّهم ولا تخصّنا. بعضهم يخرج من السباق مختنقا بينما يواصل البعض الآخر قائلا ـ شطييييييييط. وفي غضون ذلك نجلس نحن، فاقدي اللسان والبيان، في مقدمة المركب، مثل خرفان ذاهبة للذبح. ننظر بأعيننا صامتين، الأشياء تتحرك من حولنا، والصخب يدور في باطن المركب حيث الساسة لا زالوا يتنافسون في خنق بعضهم الآخر ـ شطييييييييط!
متى نصل إلى اليابسة؟ متى يتوقفون عن اللعب